أنت مدعو للتجول معي في مدونة عمارة الأرض للذهاب في المكان من شمال الأرض لجنوبها ومن شرقها لغربها وفي الزمان من عصور سحيقة في القدم مرورا بعصور الفراعنة وشعب المايا و الصينيين و اليونان و الرومان ولعصور الخلافة الإسلامية ومن عصور النهضة الي العصر الحديث لترى طرائف غرائب و من أصغر بيت في العالم إلى أكبر ما أبدعه الانسان ومن منزل يسكنه الإنسان إلى أعلي ناطحة سحاب في العالم لنغوص في عمق النفس البشرية لنري الرعب أو الجنون أو بيتا يحاكي الطبيعة كالصدف أو البيضة أويشبه حيوان أو تحت الأرض.

295 - برج الذهب بأشبيليه

وحيدا على نهر الوادي ينتصب هذا البرج الحجري المهيب وكأنه شاهد على الماضي الحربي والعمراني المجيد لحضارة الإسلام في الأندلس بأسرها وفي مدينة أشبيلية على وجه الخصوص وبرج الذهب كما يطلق عليه أهل هذه المدينة الإسبانية الرائعة ليس سوى البقية الباقية من الأسوار الموحدية وأبراجها التي اكسبت أشبيلية شهرتها كواحدة من أكثر المدن الأندلسية مناعة ويحكي هذا البرج واحدة من حلقات تاريخ أشبيلية الحافل بالحروب والصراعات منذ نشأتها الأولى على يد الايبيريين وتقلبها بين الغزاة والفاتحين من الفينيقيين والإغريق والقرطاج والرومان ثم القوط والفاتحين المسلمين فموقع المدينة على نهر الوادي الكبير كان مطمعا للغزاة ومن ثم كان الحرص على تشييد أسوار للمدينة خاصة من جهة النهر وعندما جاء المسلمون إلى أشبيلية كانت أسوارها الرومانية القديمة قد تهدمت ولم يحفل الوافدون الجدد بعد تسيدهم لارجاء الاندلس ببناء أسوار لأشبيلية الى أن قام غزاة الشمال النورمانديون الفايكنج باحتلال أشبيلية لمدة سبعة أيام في سنة 230 هـ 844م قبل أن يتمكن الامير الأموي عبدالرحمن بن الحكم من طردهم كانت هذه الغزوة المفاجئة بمثابة نهاية لعهود الامان والاطمئنان وبداية لحقبة طويلة من الجهاد والاستنفار لمقارعة الأعداء ومن لحظتها عادت العناية إلى بناء الأسوار والتحصينات واصبحت ديدن الأندلس في نضال من أجل البقاء ومن وقتها بدأت أشبيلية استعادة ذاكرة الأسوار والتحصينات ولكن الامويين هدموا سورهم في سنة 301هـ ''913م'' لمنع المتمردين من بني حجاج من التحصن بالمدينة ليعيد ملوك الطوائف تشييده قبل عام 414هـ وعندما جاء المرابطون الى الاندلس أعادوا بناء أسوار أشبيلية في عام 528هـ ''1134م'' ورغم أن الموحدين اكتفوا بالأسوار المرابطية التي كانت بحالة جيدة فإن أشبيلية تعرضت في عام 564هـ ''1168م'' لسيل جارف تهدم بسببه سور المدينة الغربي الموازي للنهر فامر الخليفة أبويعقوب يوسف ببنائه ومازالت أجزاء من هذا السور الموحدي باقية إلى اليوم حيث حافظ الإسبان عليها وقاموا بتجديدها لانها اصبحت تستخدم كمصد لفيضانات نهر الوادي الكبير اما برج الذهب الذي تفخر به أشبيلية اليوم فهو من إنشاء اخر أمراء الموحدين بالاندلس وهو أبوالعلاء ادريس الكبير ففي سنة 617هـ ''1221م'' وبعدما استبد به الخوف من هجمات الإسبان، شيد هذا الوالي برج الذهب ووصله باسوار قصر الوالي بسور قصير عمودي عليه وهو يسمى في مصطلح أهل الاندلس آنذاك ''قورجة'' وقصد ادريس من بناء البرج أن يكون نقطة دفاع حصينة عن قصره تضاف الى سورين متعاقبين، أحدهما أطول يحيط بمباني أشبيلية واخر خارجي أقصر يلاصق النهر وقد الحق ببرج الذهب هذا السور الخارجي. وكانت هناك سلسلة حديدية ضخمة يمكن أن تمد عبر مجرى النهر لتربط في برج آخر بالضفة المقابلة من أجل منع سفن الأعداء من المرور بنهر الوادي الكبير. كان هذا التقليد المعماري المقتبس من بلاد المغرب جديدا على الاندلس ولطالما عرف السور الخارجي بالبراني مع التسليم بانه وان كان أقل منعة من السور الداخلي إلا أن استخدام القورجة وتزويده بالأبراج الدفاعية الحصينة مثل برج الذهب قد اكسبه مناعة يصعب على أسلحة العصور الوسطى انتهاكها بسهولة. وتجدر الإشارة إلى أن المسافة بين السورين كانت تملأ بماء النهر في أوقات تعرض أشبيلية للهجوم وعرف البرج منذ تشييده ببرج الذهب ويفسر المؤرخون ذلك بان جدرانه الخارجية كانت مكسوة ببلاطات خزفية ذات طلاء ذهبي واستخدم الإسبان نفس الاسم بعد استيلائهم على أشبيلية في عام 646هـ ''1248م'' وربما كان ذلك تقديرا للبرج الذي صمد مع أسوار المدينة ضد حصار إسباني استمر 15 شهرا لم تفلح خلالها القوة في اخضاع المدينة التي اضطر الاندلسيون الى تسليمها تحت وطأة الجوع. فالبرج الذي لم يسقط بيد مهاجم قط استحق أن تخلد ذكرى اسمه القديم ورغم ذلك فان الروايات الإسبانية ترى أسبابا اخرى لهذه التسمية فمن قائل إن الملك بدرو الأول أودع كنوزه ومنها الذهب في هذا البرج والذي سمي برج الذهب وهناك من يؤكد انه كان يخزن بداخله الذهب والفضة الواردين من أميركا في القرن السابع عشر حينما كانت اميركا اللاتينية خاضعة للتاج الإسباني ومنذ سنة 1994 وبرج الذهب يستخدم كمتحف للبحرية الإسبانية ويضم عددا من اللوحات والرسوم لاشهر المعارك البحرية كما يضم نماذج مصغرة لأنواع السفن ونماذج من الاسلحة البحرية ويبدو واضحا أن الحكومة الإسبانية ربطت بين البرج وعصور الاستكشافات الجغرافية وما رافقها من حروب واسعة، فبالاضافة إلى روايات تكديس كنوز العالم الجديد بالبرج فان الشارع الذي يمر عبر موقع السور القديم قد اطلق عليه اسم المستكشف الشهير كريستوفر كولمبس واختيار برج الذهب متحفا للبحرية الإسبانية له مغزاه التاريخي فعلى مرأى من موقعه كانت أول واخر غزوة بحرية للفايكنج النورمانديين اقتحمت خلالها قواربهم السريعة نهر الوادي الكبير لتحتل أشبيلية أسبوعا واحدا وعندما حاول الفايكنج الإغارة مرة اخرى أرغمتهم الأسوار الأموية وايضا سفن الاندلسيين على الاستسلام ثم التوطن في أرجاء إسبانيا كمواطنين صالحين يعملون في تربية المواشي وصناعة الألبان ويتكون برج الذهب من بدنين يعلوهما جوسق حديث ويبلغ ارتفاع البرج المشيد في اغلبه بالحجارة حوالي 37 مترا. والبدن السفلي له شكل هندسي متعدد الاضلاع يبلغ عدد اضلاعه 12 ضلعا تتراوح اطوالها بين 4,10 و4,20 متر وقطره حوالي 15 مترا بينما يصل ارتفاع هذا البدن السفلي الى 23,10 متر وقد شيدت قاعدة البرج وزواياه بالحجر في حين شيدت جدرانه ما بين الزوايا بالطوب الاحمر ولهذا البرج مدخل أو باب مشيد بالحجر ولا يتجاوز اتساعه 1,25متر ويعلو فتحة الباب لوحة سجل بها باللغة الاسبانية ما يفيد تجديد البرج وترميمه في عام 1900م وبهذا البرج فتحات للتهوية والاضاءة وايضا مزاغل لرمي السهام، ويتألف البدن الاسفل من ثلاثة طوابق تربط بينها درجات سلم حجري. أما البدن العلوي للبرج فهو من كتلة بنائية مشيدة بالطوب الاحمر وهو ان كان اصغر حجما من سابقه فإنه ايضا من اثني عشر ضلعا ويصل ارتفاعه الى 8,15 متر ويزدان أعلى هذا البدن بزخارف من الخزف الاندلسي ''الزليج'' وهي على شكل معينات بالالوان الخضراء والبيضاء المحصورة داخل أشرطة من الخزف الازرق تحيط بدخلات تحتوي هذه الزخارف. ويلي ذلك طوق حديدي يلف حول هذا البدن وهو من التجديدات التي قام بها الاسبان اثناء تجديد البرج في عام 1900م ويتوج البرج جوسق اضيف الى عمارته عند ترميمه سنة 176م وروعي فيه أن يكون محاكيا لبناء البرج الموحدي فجاء على هيئة شكل متعدد الاضلاع ''12ضلعا'' وتغطي الجوسق قبة نصف كروية تكسوها من الخارج بلاطات خزفية ذات لون ذهبي ويعلو القبة دعامة قصيرة مربعة مشيدة بالطوب الاحمر ويعد برج الذهب من الاثار الاسلامية القليلة التي عني الإسبان بالحفاظ عليها بذات صورتها الاصلية وعندما اجروا تجديدات بها جاءت على نفس النسق الاندلسي القديم ولعل في ذلك اعترافا ضمنيا بما كان لهذا البرج والاسوار التي كان قائما بوسطها من فضل في حماية أشبيلية من غارات الاعداء وفيضان نهر الوادي الكبير وان كانت التغييرات المعمارية قد مست بقوة العمارة الداخلية لبرج الذهب فشيدت بداخله حوائط حديثة من أجل توفير القاعات التي يستلزمها العرض المتحفي وايضا المكاتب الادارية والمكتبة الخاصة بمتحف البحرية الملكية الاسبانية.