أنت مدعو للتجول معي في مدونة عمارة الأرض للذهاب في المكان من شمال الأرض لجنوبها ومن شرقها لغربها وفي الزمان من عصور سحيقة في القدم مرورا بعصور الفراعنة وشعب المايا و الصينيين و اليونان و الرومان ولعصور الخلافة الإسلامية ومن عصور النهضة الي العصر الحديث لترى طرائف غرائب و من أصغر بيت في العالم إلى أكبر ما أبدعه الانسان ومن منزل يسكنه الإنسان إلى أعلي ناطحة سحاب في العالم لنغوص في عمق النفس البشرية لنري الرعب أو الجنون أو بيتا يحاكي الطبيعة كالصدف أو البيضة أويشبه حيوان أو تحت الأرض.

195 - مسجد شنقيط بموريتانيا

على العكس مما يعتقده الكثيرون من أن شكل مسجد شنقيط مطابق لصورة مئذنته الشهيرة فإن واجهة المسجد مختلفة تماما عن الأسلوب المعماري الذي بنيت به المئذنة و تعكس هذه الواجهة نموذجا آخر من الزخرفة الإسلامية تطبعه البساطة ويعتمد على استخدام الأقواس ببراعة لإضفاء لمسات فنية وجمالية على أبواب المسجد ورغم الاختلاف الشكلي الواضح بين المئذنة والمسجد فإن جدران المسجد لا تختلف في باطنها أو مكوناتها عن ظاهر المئذنة فكلاهما مشيد بالحجارة الصخرية المتلألئة غير أن واجهة المسجد جلدت بالطين وطليت بطلاء عصري أبيض مثلها مثل بوابة المئذنة و لعل تلك المسحة هي سر التناسق والانسجام بين المئذنة والمسجد ويحيط بالمسجد سور له بابان من جهة الجنوب والغرب وبين البابين مكان مخصص للوضوء وقد عزل بجدار من الصخور لا يتجاوز ارتفاعه المتر وحين تخطو أمتارا إلى الأمام تقع عيناك على حجر تحديد دخول وقت صلاتي الظهر والعصر عن طريق الظل وهو معتمد عند أهل شنقيط منذ تأسيس المسجد ثم في أقصى اليسار يواجهك ضريح لأحد جيران المسجد أيام تأسيسه في أواسط القرن السابع الهجري وقد أوقف صاحب القبر هذا داره لتوسيع أرض المسجد واستثنى منها البقعة التي دفن فيها وحول هذا القبر صفائح صخرية نقشت عليها أسماء وتواريخ وفاة بعض أهالي شنقيط حيث يحرص ذوو الموتى على وضعها هناك لتذكر من توفي خارج المدينة من أقربائهم والترحم على روحه عند كل صلاة وحين تتقدم باتجاه أبواب المسجد الخمسة لتدخل من أيها شئت تلاحظ أن هناك باباً سادسا يتوارى خلف المئذنة في أقصى اليمين و يؤدي هذا الأخير إلى مصلى النساء الذي اقتطعه أهل شنقيط في الركن الجنوبي الغربي من المسجد بجدار عازل وخصصوه لهن ويسلك النساء طريقهن إلى هذا المصلى عبر طريق ضيق يمر خلف مئذنة المسجد ترى أين ترسو بك الذاكرة في مسارات التفكير المتشعبة وأي شعور يتملكك حين تحيي المسجد فتلتصق حصى الرمل بجبينك أتراها تخبرك بكم جبين التصقت قبلك ثم تتأمل المحراب فتتمنى لو أنه يصغي لرغباتك ويحدثك عن كل من صلى فيه إماما أتراه لازال يذكر كل واحد منهم ثم تقف على المنبر فتتساءل كم خطيبا وقف عليه وكم خطبة ألقيت منه أم أن قداسة المكان ستنسيك التفكر في كل ما يمت إلى التاريخ بصلة وتغريك بالدعاء والاستغفار وعبر تاريخه الطويل لم يتعرض مسجد شنقيط إلى كارثة أشد من زحف الرمال التي لازالت تتهدده وتتهدد معه كامل المدينة و لولا صمود أهل شنقيط وتصميمهم على البقاء ومغالبة الطبيعة الصحراوية القاسية لكان شنقيط الحالي كـ"آبّيْر" شنقيط الأولى في خبر كان ولقد بلغت هذه الطبيعة عتيها حينما فرضت على أهل شنقيط أن يرمموا مسجدهم سنة 1378هـ  غير أنهم حافظوا على أصالة المسجد ولم يغيروا من مخططه العام إذ مازال يحتفظ بنفس الأبعاد و نفس الأساسات التي أسس عليها من أول يوم واقتصر الترميم على رفع مستوى الجدران وبالتالي رفع مستوى سقف المسجد إلى مستوى أعلى وما زال مستوى السقف الأول للمسجد واضحا من داخل المسجد ولا يمكن تجاهل الساريات كثيرة العدد ضخمة الحجم لكونها تشغل حيزا كبيرا من المسجد ولكونها تحمل سقفه ومن يتأمل هذه الساريات يظن أنها صممت لتحمل ناطحة من ناطحات السحاب والمفارقة العجيبة أنها لا تحوي مسمارا واحدا وتدل على ذلك تلك الفتحات أو التجويفات التي توجد بداخلها والتي يستخدمها الشنقيطيون مخزنا لحفظ بعض الأغراض التي يحتاجونها داخل المسجد كالمصاحف والمصابيح والكتب وحينما يلتفت المصلي يمينا وشمالا فإنه لا يرى نافذة واحدة في جدران المسجد حتى يخال أن من بنوا المسجد اكتفوا بأبوابه المفتوحة على مدار الساعة لتهويته وإضاءته بدلا من النوافذ لكن ما إن يتبصر سقف المسجد حتى يكتشف نوافذ صغيرة مفتوحة في السقف تمد المسجد بالضوء والهواء خصوصا وقت الزوال ولا تتعدى فتحة النافذة الواحدة 15 سم مربعا ويتم إغلاق هذه النوافذ بحجارة صخرية مصفحة تمنع تسرب الماء حين تتهاطل الأمطار أما سقف المسجد ورغم ترميمه فإنه مازال نفس السقف الأول ومواده الأولية مستوحاة من طبيعة شنقيط حيث الأعمدة الحاملة للسقف من جذوع النخيل وكذلك سعف النخيل الذي هو باطن السقف في حين يغطي الطين سطح المسجد من الخارج سبعمائة وسبعون سنة مضت والأجيال في شنقيط تتوارث المسجد خلفا عن سلف إلا أنها ورغم تغير الزمان و الإمكانات لم تسمح لنفسها بعصرنة المسجد أكثر من استخدام الكهرباء لتسميع الأذان والصلاة أو تشغيل مروحيات الهواء لتخفيف درجة الحرارة التي تفرضها طبيعة المنطقة أما ما سوى ذاك فلم تغرهم حتى العروض السخية من فاعلي الخير في تغييره ولو كان تبليط أرضية المسجد أو حتى تأثيثها بالسجاد من دون التبليط بل مازالوا يفضلون الاقتداء بأسلافهم في افتراش الأرض والسجود عليها تواضعاً لله إذ منها خُلقنا وفيها نعود ومنها نُخرج تارة أخرى.