أنت مدعو للتجول معي في مدونة عمارة الأرض للذهاب في المكان من شمال الأرض لجنوبها ومن شرقها لغربها وفي الزمان من عصور سحيقة في القدم مرورا بعصور الفراعنة وشعب المايا و الصينيين و اليونان و الرومان ولعصور الخلافة الإسلامية ومن عصور النهضة الي العصر الحديث لترى طرائف غرائب و من أصغر بيت في العالم إلى أكبر ما أبدعه الانسان ومن منزل يسكنه الإنسان إلى أعلي ناطحة سحاب في العالم لنغوص في عمق النفس البشرية لنري الرعب أو الجنون أو بيتا يحاكي الطبيعة كالصدف أو البيضة أويشبه حيوان أو تحت الأرض.

415 - المسجد الجامع بواشنطن أمريكا

المسلمون في الولايات المتحدة الأميركية مسألة معقدة ومهمة والملف الخاص بهم يشمل عدة قضايا بالغة الدقة والتشابك فهم من حيث التاريخ تمتد جذورهم القديمة إلى عام 1539م عندما وصل أول مسلم من المورسكيين أمثال استفانكو وغيره ممن انضموا إلى المستكشفين الأوائل للأرض الجديدة وهم من حيث العدد تتراوح تقديرات أعدادهم ما بين ثلاثة وخمسة ملايين مسلم أو يزيد وهم من حيث توزعهم الجغرافي في الولايات المتحدة الواسعة ينتشرون في أرجاء معظم الأرض الأميركية من الغرب إلى الشرق وهم من حيث التنوع العرقي تتعدد أصولهم من زنوج إلى شرق أوسطيين إلى ألبانيين وأتراك وباكستانيين وهنود وهم من حيث أفكارهم ومذاهبهم يتأرجحون بين الانحلال والتفلت والتشدد والتطرف والجهل والأمية واللامبالاة والذوبان إضافة إلى وجود فئات كثيرة واعية بصيرة راشدة إنهم قضية شائكة ومعقدة لم يكتب لها إلى اليوم من يقوم بشئونها وشجونها ومسؤولياتها الكبيرة وإذا كنا اليوم نستطيع القول إن عدد المساجد في أمريكا كما يقدره بعض الباحثين يصل إلى قرابة ألف مسجد ما بين مسجد ضخم مشهور ومصلى صغير مغمور فإن هذا الكم الكبير كان في الماضي متواضعاً جداً في عدده أو حاله ويقول الدكتور حسين مؤنس كان في واشنطن وغيرها من كبريات بلاد الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الوسطى والجنوبية مساجد صغيرة هي في الغالب شقة في بيت أو قاعة في مطعم أو مخزن أوجراج تؤجر لهذا الغرض وفي العادة تلجأ الجاليات الإسلامية الكبيرة الحجم إلى استئجار قاعة واسعة في أحد المطاعم أو المنشآت المخصصة للحفلات لتقيم فيها صلاة الجمعة وخاصة صلاة العيدين بل إن مما يحزن أشد الحزن وأبلغه ما أطلقه السيد قطبي مهدي أحمد قبل مدة غلب عليه التشاؤم فيها وهو من زعماء المسلمين في أمريكا من صرخة عبرت عن الخوف على مستقبل المساجد الإسلامية في ديار الغرب بسبب فقدان المسلمين لشخصيتهم الإسلامية بمرور الزمن مما يؤدي إلى خراب بنيان المساجد أو تعطلها وبيعها ويقول وكثير من هذه الجمعيات الإسلامية لم يعد لها وجود بعد أن انتقلت إلى أبناء المؤسسين فقد هدم أقدم مسجد في أمريكا في مدينة روس بولاية داكوتا الشمالية عام 1979 وتحول مسجد آخر في هاي بارك بولاية ميتشجان إلى كنيسة وتم بيع الكثير من المساجد الأخرى أو تحولت إلى مطاعم واستخدمت في أغراض أخرى أما المساجد التي بقيت فإنها لم تعد تدار بالأسلوب التقليدي كمساجد حقيقية وتراجَعَ الاهتمام بالصلوات اليومية وصلاة الجمعة لم تعد تقام أو تقام شعائرها أيام الآحاد الخ ولكن الصورة الكئيبة للمسلمين في أميركا تنجلي وتزهو وتعيد للنفس الثقة والطمأنينة ببعض المساجد والمراكز الإسلامية التي انشئت حديثاً على أفخم طراز وأبهى منظر خاصة إذا علمنا أن خدماتها ونشاطها لم يقف عند حد ايجاد المكان الصالح لأداء العبادة في يسر واطمئنان بل زاد وامتد إلى ما هو أبعد من ذلك مما يحقق مصالح المسلمين هناك ويحفظ كيانهم ويدفع عنهم بؤس الغربة وخطر الذوبان ومن تلك المساجد الكبرى ذات الأهمية البالغة لمسلمي امريكا مسجد واشنطن مع المركز الإسلامي الملتف حوله وإذا ما قورن مسجد واشنطن بالمساجد الشهيرة الأخرى في أمريكا فإنه أجملها ولا شك وأهميته تنبع من كونه في العاصمة الأمريكية وكونه يضم مجلس سفراء الدول الإسلامية وكونه على اتصال واسع مع أطراف دولية كثيرة متنوعة ويذكرنا الدكتور مؤنس بقصة انشاء المسجد فيقول وكما كان لكل من مسجدي لندن القديم والجديد ومسجد باريس قصة فلنقف بمسجد واشنطن الجامع وهو أكبر مساجد العالم الجديد هنيهة نقص فيها خبره فقد وقع حادث في سنة 1945م نبّه مسلمي واشنطن القليليين نسبياً إلى ضرورة انشاء مسجد في العاصمة الأمريكية إذ توفي السفير التركي فجأة وتحير المسلمون في أمر إقامة صلاة الجنازة عليه وتقبل العزاء فيه فتحرك محمود حسن سفير مصر في واشنطن إذ ذاك واتصل بمقاول مسلم أمريكي من اصل لبناني هو أحمد يوسف حوار واتفقا على ضروة تحقيق مشروع المسجد ووعد السيد حوار بتحمل جانب كبير من نفقات البناء وجرت اتصالات كثيرة بين سفراء البلاد الإسلامية التي كانت ممثلة في واشنطن في ذلك الحين وعددها إحدى وعشرون دولة ونتيجة الجهود الحثيثة لدى الحكومة الأميركية والحق أنها أكثر انفتاحاً من غيرها من الحكومات الغربية فقد تبرعت الحكومة الأمريكية بقطعة أرض تبلغ مساحتها 30.000 قدماً مربعاً يقدر ثمنها آنذاك بنحو مائة ألف دولار وقد اختيرت الأرض في شارع من أجمل شوارع واشنطن وهو زاوية شارع بلمونت وماساشوسيت واحتاج المسجد إلى أربع سنوات لوضع رسمه وقد قامت وزارة الأوقاف المصرية بعمل الرسوم والتصميمات بالأسلوب المعماري المعروف في القرن الثاني عشر وقامت بتنفيذ المشروع شركة ايرفنج وبورتر وأولاده كما شارك المكتب الهندسي للسيد حوار بوضع الرسوم على نحو إسلامي خالص مراعياً الاتفاق في الشكل العام مع العمارة الأميركية التي تميل إلى المداخل الواسعة ذات الأعمدة الرفيعة الذرى محاكاة للعمارة الأغريقية وتطوع بالاشراف على العمل مجاناً في مراحله كلها المهندس حوار نفسه فلسطيني الأصل اسمه السيد محمد يوسف أبو الهدى وكانت هذه إحدى مساعداته القيمة فضلاً عما قدمه من المساعدات الأخرى كالنافورة البديعة التي وضعت في صحن المسجد وبلغت تكاليف البناء وحده 1.250.000 دولاراً أمريكياً لم يكن من ضمنها ثمن القطع الفنية الكثيرة النفيسة التي شاركت بتقديمها مجاناً كثير من الدول الإسلامية واستغرق الانشاء سبع سنوات وتم افتتاح المسجد والمركز الإسلامي في الثامن والعشرين من شهر يونيو عام 1957 بحضور الرئيس دوايت ايزنهاور الذي افتتح الاحتفال بخطاب مناسب حيا فيه مسلمي العالم الإسلامي واشار إلى ما كان للحضارة الإسلامية من آثار عميقة بين الحضارات المتعاقبة ولا سيما الغربية ويذكر أنه بالنسبة لمسجد واشنطن فقد قطعت حجارته من جبال ألباما وهي جبال ذات حجارة بيضاء صافية البياض وكان الذين قطعوها وأعدوها للبناء بناؤون مهرة من عمال مصر والشام احضروا خاصة لذلك وتولى تحديد اتجاه القبلة بشكل فني دقيق أحد أعضاء الجمعية الجغرافية الامريكية ويسمى هلمان تشيمبرلين وإضافة إلى العمال الفنيين الذين استقدموا من مصر والشام للعمل في المسجد فقد استعين أيضا بعمال من تركيا وإيران والسعودية والمسجد كله كما يقول الدكتور مؤنس بيت صلاة فسيح رفيعُ الذرى يقوم سقفه على أعمدة ضخمة من الرخام تحمل فوقها بوائك عالية من الطراز الذي استحدثه ماريو روسي في جامع أبي العباس المرسي في الأسكندرية وتكرر بعد ذلك كثيراً في مساجد عديدة أعظمها المسجد النبوي المكرم في المدينة وقد شاع استعمال هذا الطراز الجميل من العقود لأنه يتيح للمعماري رفع السقف إلى أعلى مستوى يستطيعه عن طريق تلك العقود المرتفعة التجويف السميكة الطبقات تبعاً لذلك وتمتاز عقود مسجد واشنطن بأنها مفصصة كبيرة الفصوص ولبيت الصلاة في مسجد واشنطن أربعة أبواب لها ستائر من المخمل الأخضر وموشاة بالذهب والفضة وقد كانت أهدت المسجد تلك الستائر سفيرة باكستان في هولندا عام 58/59 وهي زوجة الزعيم الباكستاني الشهير لياقت علي خان وفي بيت الصلاة هذا منبر جميل بديع على طراز منبر جامع محمد علي في القاهرة وبلغت قطعه التي ركب منها اثني عشر ألف قطعة من الأبنوس صنعت كلها في مصر ثم ركبت على الهيكل الخشبي والمنبر هذا قدمته هدية للمسجد الحكومة المصرية التي قدمت أيضاً ألف كتاب نفيس في مختلف العلوم الشرعية والعربية والكونية لتكون نواة للمكتبة النفيسة التي يعتز بها المركز الإسلامي الثقافي المجاور للمسجد كما قدمت مصر أيضاً الثريا المركزية البرونزية الرائعة التي تزن طنين وهي تتوسط القبة الصغيرة في بيت الصلاة كأنها العروس الفاتنة ويلحظ الناظر في بيت الصلاة في مسجد واشنطن كذلك المحراب المجوف الذي يتوسط جدار القبلة وهو يشابه محراب مسجد الإمام الرفاعي في القاهرة من حيث النقش والفخامة وله وقع في النفس كبير وتزينه رسومات نباتية وآيات صنعت فوق القاشاني الملون كما لا تخطىء العين في بيت الصلاة هناك منظر الآيات القرآنية الكريمة وأسماء الله الحسنى التي نقشت بخطوط عربية متقنة ومزخرفة على الجدران وعلى أطراف السقف حتى غدا بيت الصلاة تحفة فنية رائعة ومدخل بيت الصلاة من الجمال والفخامة بمكان فهو واسع تتقدمه أربعة أعمدة رخامية تحمل خمسة عقود على شكل قناطر ومن فوقها واجهة زينت على ضخامتها بقول الحق سبحانه { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} وأمام المدخل المرتفع قليلاً عن الأرض سلم حجري عريض من الرخام الأملس أما مئذنة مسجد واشنطن فيبلغ ارتفاعها نحو 160 قدما وهي مكونة من جزئين الأسفل منهما مربع الشكل تتوسط كل ضلع فيه نافذة طولية وضع أسفلها مقرنصات حجرية بينما تعلو تلك النافذة المغطاة بأحجار مخرمة نافذة أخرى مغلقة ترتكز عليها وينتهي هذا الجزء المربع من بدن المنارة بشرفة الأذان الكبرى المحلاة بنقوش عربية إسلامية ومن وسطها ترتفع بقية المئذنة مدورة الشكل إلى أن تختم بشرفة أخرى أصغر وفوق تلك الشرفة قبة تعلوها عرموطة حجرية ترفع عموداً ضخماً من النحاس يحمل فوقه الهلال الإسلامي الشامخ شموخ الأذان المنطلق عبر الأجواء من هذه المنارة والمئذنة كلها مبنية في وضع يتخيل الناظر إليها وكأنها قائمة فوق المدخل الرئيسي وقد شاركت كثير من الدول الإسلامية بهداياها النفيسة للمسجد فأهدت تركيا القيشاني الأبيض والأزرق الذي حليت به جدران المسجد الداخلية على ارتفاع ستة أقدام مما أضفى على بيت الصلاة جمالاً أخاذاً فاتنا كما قدمت إيران مجموعة رائعة من السجاد الفاخر من بينها سجادة ضخمة لا تقدر بثمن مقاييسها 20 قدما في 40 قدما أي بمساحة مربعة تصل إلى قرابة مئتين وخمسين متراً مربعا ولا يسعنا أن نغفل الإشارة إلى المركز الإسلامي التابع لمسجد واشنطن وهو الذي بدأت أعماله كما يقول الدكتور عبدالرحمن زكي عام 1949 وهو يتألف من جناحين حول المسجد خصص أحدهما لمعهد يضم قاعة كبيرة للمحاضرات ومكتبة تحتوي على الآلاف من الكتب القيمة جمعت من شتى أنحاء العالم الإسلامي بينما خصص الجناح الآخر لسكن المدير والمكاتب التابعة للمعهد وقد تولى إدارة المركز أولاً الدكتور محمود حب الله وهو من علماء الأزهر الشريف ثم من بعده الدكتور محمود بيصار استاذ الفلسفة والدين بالأزهر وقد تأخر بناء المركز عن بناء المسجد فلم تنته أعمال بناء المركز الإسلامي في واشنطن إلا في خريف عام 1955م بعد أن شاركت في بنائه وتمويله أحد عشر دولة إسلامية ويقصد مسجد واشنطن آلاف الناس باستمرار فأما المسلمون فيقصدونه على اختلاف طبقاتهم للصلاة وطلب العلم والتزود بالمعرفة وللتباحث فيما يهمهم في حياتهم من أمور ولحل بعض مشاكلهم أو استيضاح أحكام دينهم ولكن المسجد أيضاً يجذب إليه بحكم موقعه وجمال بنائه الكثير من الأمريكيين الذين يحبون جمال البناء أو يودون التعرف على أسرار الإسلام أو يريدون إشباع فضولهم عن الحضارة الإسلامية.