أنت مدعو للتجول معي في مدونة عمارة الأرض للذهاب في المكان من شمال الأرض لجنوبها ومن شرقها لغربها وفي الزمان من عصور سحيقة في القدم مرورا بعصور الفراعنة وشعب المايا و الصينيين و اليونان و الرومان ولعصور الخلافة الإسلامية ومن عصور النهضة الي العصر الحديث لترى طرائف غرائب و من أصغر بيت في العالم إلى أكبر ما أبدعه الانسان ومن منزل يسكنه الإنسان إلى أعلي ناطحة سحاب في العالم لنغوص في عمق النفس البشرية لنري الرعب أو الجنون أو بيتا يحاكي الطبيعة كالصدف أو البيضة أويشبه حيوان أو تحت الأرض.

567 - قصر الأمير طاز بالقاهره مصر

يقع القصر بالقاهرة القديمة بمنطقة الخليفة بالقلعة بشارع السيوفية المتفرع من شارع الصليبة أنشأه صاحبه الأمير سيف الدين طاز بن قطغاج أحد الأمراء البارزين في عصر دولة المماليك البحرية والذي بدأ يظهر اسمه خلال حكم الصالح إسماعيل بن الناصر محمد إلى أن أصبح في عهد أخيه المظفر حاجي أحد الأمراء ممن بيدهم الحل والعقد في الدولة في ذلك الوقت وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر وعندما بلغ قصر الأمير طاز من العمر خمسمائة عام رأت الحكومة الخديوية أن تحيل القصر إلي الاستيداع وقررت تحويله إلي مدرسة للبنات بإيعاز من علي باشا مبارك أحد رواد التنوير حينذاك ولكن لم تمض سوي عشرات قليلة من السنين إلا وأخلت وزارة التربية والتعليم القصر ليس من أجل ترميمه والحفاظ عليه بعد أن ظهرت عليه آثار الشيخوخة بشكل واضح ولكنها تم تحويله إلي مخزن ولأن القصر كبير ومتسع ويقع في قلب القاهرة فقد كان مؤهلا من وجهة نظر الوزارة أن يكون المخزن الرئيسي لمئات الألوف من الكتب الدراسية وعشرات العربات التي تم تكهينها ومئات الأطنان من الخردة بمختلف أنواعها ولأن الناس علي دين ملوكهم فلم يستشعر سكان المنطقة حرجا في استعمال القصر كمقبرة للحيوانات النافقة وفي أكتوبر 1992 تم إدخال القصر الي مرحلة جديدة بعد أن عصفت رياح الزلزال الشهير بالكثير من أركانه وأعمدته وعلي مدي عشر سنوات ظل الحال كما هو عليه إلي في 10 مارس 2002 انهار جانب كبير من الجدار الخلفي للقصر والمطل علي حارة ضيقة بها عشرات البيوت المتهالكة يسكنها مئات آلاف المواطنين وأصبحت حياتهم جميعا مهددة بالخطر المنتظر بين لحظة وأخرى بعد أن أصبح الانهيار الكامل للقصر مسألة ساعات لا أكثر وقامت وزارة الثقافة ببدء مشروع ترميم القصر بعد اهماله لفترات طويلة و لكن المهمة كانت صعبة للغاية بسبب تلف اجزاء كثيرة وبيوت الخبرة العالمية والخبراء الاجانب اعتبروا أن الموضوع قد انتهي بالفعل وأن أي محاولات للإنقاذ مضيعة للوقت ووقف العالم مبهورا وهو يري الحياة تعود إلي القصر الذي تم ترميمه بكفاءة لا يمكن وصفها.. ولم يكتف المصريون بالانقاذ والترميم ولكن المفاجأة الأكبر كانت في الاكتشافات الأثرية المهمة التي واكبت ذلك وأدت إلي إزاحة الستار عن المزيد من خبايا القصر العمل الذي تم إنجازه رائع بكل المقاييس وتبلغ مساحة القصر الاجمالية أكثر من ثمانية آلاف متر مربع وهو عبارة عن فناء كبير في الوسط خصص كحديقة تتوزع حولها من الجهات الأربع مباني القصر الرئيسية والفرعية وأهمها جناح الحرملك والمقعد أو المبني الرئيسي المخصص للاستقبال والملاحق والتوابع والاسطبل أما الآن فلم يتبق من هذه المباني سوي الواجهتين الرئيسية المطلة علي شارع السيوفية والخلفية المطلة علي حارة الشيخ خليل وهي التي بدأ منها الانهيار والمقعد الذي تم تجديده في عهد علي أغا دار السعادة صاحب السبيل والكتاب الملحقين بالقصر وجزء صغير من قاعات الحرملك فضلا عن القاعات المستحدثة التي استخدمت كمخازن أو قاعات دراسية في عصور لاحقة والمدخل الرئيسي للقصر عبارة عن كتلة متماسكة تبدأ بممر مستطيل له باب من خلفه واحدة في نهايته قبو علي جانبيه مدخلان يفتح كل منهما علي فناء مستطيل هو صحن القصر وهذا المدخل الكامل يطل علي شارع السيوفية وكما يوجد للقصر مدخل فرعي يطل علي حارة الشيخ خليل وصفته الكتابات والوثائق القديمة بأنه باب سر القصر وللقصر قاعة سفلية رئيسية تم ترميمها بالكامل جدرانها مغطاة بطبقة من الجص الذي يناسب الحجارة التي بنيت بها القاعة في الأصل أما الجزء الخاص بالحرملك فهو يطل علي الفناء أو الحديقة بمجموعة من الشبابيك المصنوعة من الخشب البغدادلي والتي تعد تحفة فنية فريدة وتعلوها ثلاثة شبابيك مستديرة وهي التي تعرف بالقمريات وبالقصر إيوانان أحدهما في الجهة الشمالية والآخر في الجهة الجنوبية والايوان الشمالي مربع يغطيه سقف ذو زخارف هندسية ونباتية كما أن به شريطا كتابيا تبقي منه النص التالي بسم الله الرحمن الرحيم أمر بإنشاء هذا المكان المبارك السعيد من فضل الله الكريم وكل عطائه العميم المقر الأشرف العالي المولوي المخدومي الغازي المجاهدي المرابطي وهي كلها ألقاب خاصة بالأمير طاز كما يتوسط هذه الكتابات رسم لكأس يرمز الي وظيفة الساقي احدي الوظائف التي تقلدها الأمير طاز كما يوجد المقعد أو صالة الاستقبال الرئيسية فهو من مستويين يربط بينهما سلم وهو في كل من مستوييه عبارة عن مساحة مستطيلة تطل علي الفناء بما يشبه التراس القائم علي ثلاثية أعمدة من الخشب ويوجد أسفل السقف إزار خشبي يحتوي علي كتابات نسخية للآيات الأولي من سورة الفتح وملحق بهذا المقعد ثلاث قاعات مليئة بالزخارف الهندسية وعندما بدأ الانهيار في الجدار الخلفي للقصر والمطل علي حارة الشيخ خليل هرول فريق الطواريء الي هناك حيث وجدوا أن الحائط بارتفاع خمسة وعشرين مترا وهو ارتفاع عمارة مكونة من تسعة طوابق قد انهار جزء منه ومال بقية الجدار بصورة واضحة تجاه منازل الحارة ووصل الميل الي نصف متر فكانت الخطة المبدئية لايقاف التدهور ذات شقين متتالين الأول عمل دعامات لايقاف أي انهيار جديد وازالة أكوام الردم الموجودة أعلي السقف والتي تمثل حملا ثقيلا قد يساعد علي أي انهيار قادم كذلك شمل هذا الشق بناء قمصان أو حوائط من الطوب حول الجدار لتثبيته ومنعه من السقوط وقد كانت هذه المرحلة شديدة الخطورة علي العاملين إذ أن جدار بارتفاع خمسة وعشرين مترا وواجهة شديدة الطول مهدد بالانهيار فوق رؤوسهم في أي لحظة ولكن هؤلاء العاملين واجهوا هذا الخطر ووافقوا عليه تحت مسئوليتهم الخاصة أما الشق الثاني فتمثل في تقسيم القصر الي أجزاء ثم فك كل جزء علي حدة بحرص شديد تماما مثلما سبق لهيئة الآثار فك العديد من المعابد الفرعونية التي كان أشهرها وأضخمها معبد أبوسمبل مع ملاحظة أن المعابد علي فخامتها كانت في النهاية كتلا حجرية متماسكة غير مهددة بالانهيار عكس القصر الذي كان يترنح ويتراقص فضلا عن أنه مكون إما من كتل بل قطع حجرية شديدة الصغر مقارنة بالمعابد أو أخشاب وقد صاحب هذه المرحلة عملية مراقبة مكثفة خوفا من حدوث انهيار مفاجيء يهدد حياة سكان المنطقة والعاملين في المشروع وعندما تمت العملية بنجاح واكتشف فريق العمل أن الميل قد تراجع بفعل الدعامات وأن حركة المباني بشكل عام قد توقفت تم تعديل خطة فك القصر بأكمله وتم تعديلها ليقتصر هذا الفك علي الأجزاء المتهالكة فقط وكان أكبر وأهم ما تم فكه هو دور علوي كامل كان جزءا رئيسيا من الحرملك وكذلك كان من أهم مناطق القصر التي تم استكمالها منطقة الحمامات في الدورين الأرضي والعلوي وهي ذات أسقف جبسية تعلوها قباب صغيرة كانت مليئة بالعناصر الزخرفية وبعد أن انتهت أول وأخطر المراحل وهي الخاصة بعزل الأجزاء الحساسة المهددة بالسقوط إما بالفك الكامل أو ببناء حوائط جديدة حولها لتكون بمثابة قمصان واقية تحميها بدأت عمليات الترميم واعادة التركيب للقصر بأكمله وكانت الخطوة الأولي هي ازالة المخلفات والردم الناتج عن تراكم الأتربة علي مدار عشرات السنين من الاهمال وهي مخلفات كانت من الضخامة بحيث أنها سدت الكثير من الفراغات المعمارية وفتحات ومداخل السراديب والقباب ثم أعقب ذلك فرز المكونات الأصلية للقصر التي اختلطت بهذه المخلفات عند وقوع زلزال أكتوبر 92 أو عند الانهيار الأخير في مارس 2002 وقد أسفرت هذه العملية عن العثور علي كمية هائلة من العناصر الخشبية والمعدنية والحجرية التي كان لها أكبر الأثر في عودة القصر الي رونقه القديم بنفس مكوناته الأصلية علي قدر المستطاع ومن أهم العناصر الأثرية للقصر التي خضعت لعمليات المعالجة والترميم الأخشاب الزخرفية أو الصماء والعناصر الرخامية والمعدنية والطبقة الجيرية التي تكسو الحوائط وكذلك الطوب والأحجار التي تم بناء الجدران بها فضلا عن الكتابات والرسوم التي كانت تعلو القطع والشرائط الخشبية والكتل الحجرية وكل عنصر من هذه العناصر له خبراؤه المتخصصون وبالمناسبة فجمعيهم مصريون ومعظمهم من خريجي قسم الترميم بكلية الآثار وعملية الترميم عادة شديدة التعقيد والدقة ولها خطوات متتالية ومحسوبة فمثلا عند عمليات الترميم الخاصة بالألوان تم اجراء تصوير ميكروسكوبي اليكتروني ماسح لمعرفة مدي التدهور الذي تعاني منه طبقات الألوان ثم تمت عملية شفط الأتربة بحذر شديد ثم استخدام فرش تنظيف يدوية مختلفة المقاسات لا زالة ما تبقي من أتربة ورمال كما تم استخدام التنظيف الميكانيكي لكشف مواضع الخوابير الخشبية والمسامير المعدنية أما الأسقف فتمت معالجتها بيولوجيا ورشها بمواد كيميائية معينة أقرتها من قبل بيوت الخبرة العالمية المتخصصة في معالجة وترميم الآثار العالمية ثم أعقب ذلك استكمال الأجزاء الخشبية المفقودة إما عن طريق ما تم العثور عليه بين أكوام المخلفات أو باستخدام نفس نوع الخشب المستخدم في السقف مع مراعاة اللجوء الي الرتوش اللونية للزخارف والكتابات في أضيق الحدود لعدم الاخلال بالنسيج المتكامل والمتماسك للوحدات الزخرفية والكتابية وأخيرا تم اجراء عملية عزل وحماية للزخارف ضد أي مؤثرات خارجية عن طريق الرش بمواد عزل تم اختيارها عن طريق المتخصصين بعناية فائقة تفاديا لتكوين طبقة سميكة أخرى من الأتربة وخلافه فإذا كانت كل هذه المراحل وكل هذه الدقة من أجل جزء من التكوين الخشبي في بعض أجزاء القصر فلنا أن نتخيل حجم العمل الذي تم في عشرات التفاصيل الأخرى من أرضيات وجدران وأعمدة وسلالم وأجزاء معدنية وغيرها من المكونات ألم نؤكد لكم منذ البداية انها ملحمة متكاملة وليست مجرد عملية انقاذ ومما يؤكد انها ملحمة هذا الكم الهام والمثير من الاكتشافات التي صاحبت عمليات الانقاذ والترميم والتي كان أهمها وأكثرها اثارة حوض ضخم لأسماك الزينة تم استخدامه من أجل اضفاء لمسة جمالية وان كان هناك رأي بأن هذا الحوض ربما تم استخدامه كحمام سباحة لجواري القصر كما تم الكشف عن نافورة بالمقعد الأرضي وساقية تعلو بئر ماء كانت مخصصة لسقاية الدواب وري الحديقة وكذلك عمود رخامي له تاج كورنثي يعود للعصر البيزنطي وصهريج مياه كان مصدرا لتغذية سبيل علي أغا الملحق بالقصر ومجموعة من المجارير الفخارية وهي تماثل تقريبا أنابيب الصرف في عصرنا الحديث وأحواض للدواب بعضها بجوار المدخل المؤدي الي المقعد الأرضي وبعضها علي طرف القصر في الجهة المطلة علي شارع السيوفية وعدد آخر من الاكتشافات الهامة وحاليا يقام في القصر العديد من الحفلات للاحتفاء بالموسيقى العربية ويقام العديد من ورش العمل للأطفال كالرسم والغناء والنحت وبعض الندوات واللقاءات السياسية بعد ثورة 25 ينايرأما القطاع الثاني الذي امتدت اليه يد الإصلاح والترميم فهو سبيل وكتاب علي أغا دار السعادة وهذا الأثر بأكمله جزء من قصر الأمير طاز استقطعه الأمير علي أغا من القصر بعد هجره وتهدمه حوالي عام 1715م وشيد عليه سبيل مياه لسقاية الحارة يعلوه كتاب لتحفيظ القرآن وهو من طراز الأسبلة ذات الشباك الواحد وقد عاني هذا المبني من سوء الاستخدام لفترات طويلة مما أدي الي طمس بعض أجزاء من أرضياته وطلاء حوائطه كما ملأته التشققات والشروخ وكذلك كان السلم الحجري الذي يربط بين السبيل والكتاب في حالة سيئة للغاية وقد تم علاج كل هذه العيوب خلال عمليات الترميم التي قامت بإعادة البياض بمون متوافقة مع مواد المون الأصلية واستبدال الأرضيات غير الأثرية وفقا للأصل الأثري كما تم حقن شروخ السلم وتأمينها.












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق